اغتيال الشهود: الاستهداف المباشر لصحفيي غزة يكشف رعب الاحتلال من الحقيقة”
الكاتب/ الصحفية ملاك عودة
في غزة، الموت لم يعد عشوائيًا. صار انتقائيًا، يقف عند أبواب الصحفيين تحديدًا، يختار وجوههم، ويمد يده إلى أرواحهم، كما لو أن الكاميرا أخطر من السلاح ، وكأن الصورة أثقل من القذيفة. مشهدٌ مقلق، يثير سؤالًا وجوديًا قبل أن يكون سياسيًا: لماذا يخاف الاحتلال من الصحفي أكثر مما يخاف من المقاتلً والعسكري !؟
الصحفيون في غزة ليسوا طرفًا مسلحًا. لا يحملون قذائف، ولا يطلقون صواريخ، كل ما يحملونه هو كاميرا، قلم، ميكروفون، أو حتى هاتف جوال. ومع ذلك، باتوا هدفًا مباشرًا للقصف. الاستهداف المتكرر لا يترك مجالًا للصدفة. نحن أمام سياسة، أمام قرار معلن بصوت مكتوم: “اقتلوا الشهود.”
حين يُقتل الصحفي، لا يُقتل شخصًا فحسب، إنما يُقتل الشاهد، ويُحاصر الخبر، ويُكمم صوت الضحية. لهذا السبب، أجمعت منظمات دولية على أن استهداف الصحفيين في غزة هو جريمة حرب. الأمم المتحدة، مراسلون بلا حدود، لجنة حماية الصحفيين… كلها أصدرت بيانات، لكنها لا تملك أن تعيد الحياة لمن اغتيل، ولا أن تمنع الرصاصة القادمة من أن تبحث عن عين جديدة لتفقأها.
في الفلسفة القديمة، كان يُقال إن العين مرآة الروح. أما في غزة، فقد صارت العين مرآة الجريمة. ولذلك تُستهدف. كل صورة تُلتقط في شوارع غزة المدمرة ليست مجرد توثيق، هي فضيحة عالمية تُكشف للعالم. ولهذا، يخاف الاحتلال من الكاميرا. يخاف من الحقيقة حين تُحاصر دباباته أكثر مما يخاف من أي مقاومة مسلحة.
الصحفي في غزة ليس ناقلًا محايدًا للأحداث، الصحفي يغني شهيدًا حيًا حتى قبل أن يسقط. يقف في الميدان وهو يعرف أنه مستهدف، ومع ذلك يرفع الكاميرا. يعرف أن كل لحظة قد تكون الأخيرة، ومع ذلك يضغط على زر التصوير. إن هذا الإصرار ليس مهنة، بل مقاومة من نوع آخر. مقاومة بالكلمة، بالصورة، بالشهادة.
لكن السؤال المؤلم: كم صحفيًا يجب أن يُقتل حتى يستيقظ العالم؟ كم قلمًا يجب أن يُكسر حتى نفهم أن حرية الإعلام في غزة ليست مجرد قضية حقوقية، بل معركة وجود؟
الأرقام وحدها كافية لإثارة الرعب. العشرات من الصحفيين قُتلوا منذ بداية الحرب، آخرون جُرحوا، كثيرون فقدوا عائلاتهم بالكامل. هذا الرقم هو الأعلى في أي نزاع حديث. بل إن منظمات دولية قالت إن غزة تشهد أكبر “مجزرة صحفيين” في التاريخ المعاصر. ومع ذلك، ما زالت العدسات تُرفع، وما زالت الأصوات تخرج من بين الركام.
في كل صورة نُشرت من غزة، هناك دمٌ خلف الكاميرا. في كل تقرير إخباري، هناك حياة دُفنت كي تصل الحقيقة إلى شاشة صغيرة في بيت بعيد. ومع ذلك، يستمر القتل، كأن الاحتلال يريد أن يُطفئ الضوء الذي يفضحه.
لكن الحقيقة أعند من الرصاص. الصور لا تموت. الكلمات لا تُدفن. وكل صحفي يُقتل في غزة يولد معه ألف شاهد جديد. في عصر السرعة والتواصل، لم تعد الحقيقة بحاجة إلى حامل واحد. هي تتكاثر، تنتشر، تسافر بلا جواز سفر، وتخترق الجدران التي يحاول الاحتلال بناءها حول جرائمه.
في النهاية، ما يكتبه الصحفي في غزة ليس خبرًا عاجلًا، ولا تقريرًا عابرًا. إنه وثيقة دامية تُثبت أن القلم قد يكون أخطر من البندقية، وأن الكاميرا قد تكون سلاحًا لا يقدر الاحتلال على مواجهته.
إنهم لا يقتلون أشخاصًا فحسب، يقتلون فكرة أن الحقيقة يمكن أن تُقال. ومع ذلك، الحقيقة تظل تصرخ، وتظل الصور تخرج من بين الركام.
هنا، في غزة، الصحفي لا يكتب مقالات… في غزة الصحفي يكتب شهادته الأخيرة بدمه. وهنا، يظهر المعنى المرعب الاحتلال يخاف الحقيقة أكثر مما يخاف الهزيمة.