غزة تستصرخ طبيبا من فلذة أكبادها …وائل ابو عرفة
الكاتب/ الصحفية ملاك عودة
من الأزقة الضيقة في البلدة القديمة بالقدس خرج الطبيب وائل أبو عرفة، يحمل بين أقدامه خطوات طفولة عميقة، وذكريات تتخللها رائحة الخبز الطازج وصوت الأسواق. كان والده تاجر خضار يقود خطاه بين رزم الخضار والفواكه، ويأخذها إلى القدس من غزة، تلك المدينة التي شكلت منذ البداية جزءًا من ذاكرته ووجدانه. هناك، بين حرارة الشمس ورائحة الأرض وكرم الناس، وُلد أول خيط يربطه بغزة، مدينة محاصرة لكنها حية في قلبه.
لم يكن طريقه سهلاً، فقد عبر العالم كله: رومانيا، لندن، نيويورك. سنوات طويلة من الدراسة والخبرة المتراكمة في الجراحة العامة، وأعمقها في جراحة الكلى والمسالك البولية للأطفال والبالغين وجراحة الأورام. لكنه حين عاد، لم يرَ في شهاداته سوى مفاتيح لفتح أبواب فلسطين. ومنذ عام 2000 وحتى اليوم، يخدم في مستشفى مار يوسف (الفرنسي) في القدس ونابلس التخصصي، حيث تُجرى العمليات الجراحية المعقدة التي تُجرى في أكبر مستشفيات العالم للبالغين والأطفال، مستقبلاً الحالات التي تحتاج إلى خبرة طويلة وإمكانيات محددة لا تتوفر في كل المستشفيات الفلسطينية الأخرى.
غزة… قلب فلسطين النابض
عام 2011، بدأ وائل مهماته الطبية في غزة. منذ تلك اللحظة صار عابرًا للحدود بين الواقع والحاجة الإنسانية. زار القطاع **تسع مرات**، مكث خلالها بين ثلاثة إلى سبعة أيام، يتحول فيها النهار والليل إلى خيط واحد من الجراحة والإنقاذ. في كل يوم، كان يجري ما بين 15 و20 عملية، بعضها بسيط، وأخرى معقدة، بعضها للبالغين، وأكثرها للأطفال الذين يحملون التشوهات أو السرطانات المبكرة، نتيجة الحروب المستمرة والأسلحة المحرمة.
ولاحظ ابو عرفة أن الكثير من التشوهات في غزة تعود لأسباب متعددة: زواج الأقارب، الحروب المتتالية، واستخدام الأسلحة التي خلفت آثاراً مدمرة على أجساد الأطفال. أصبح من النادر أن ترى أطفالًا في العاشرة أو الثانية عشرة إلا وهم بحاجة إلى علاج لأورام الكلى أو المسالك البولية، وهي حالة كانت نادرة قبل الحروب. هذا الواقع المؤلم جعله يشعر بأن غزة ليست مجرد مدينة، بل مرآة لجوهره الإنساني وملتقى لكل خبراته الطبية ومهاراته.
الأطباء في غزة… صمود بلا حدود
في كل زيارة، كان وائل يكتشف شيئًا فريدًا: الأطباء الغزيون يعملون 24 إلى 48 ساعة بلا توقف بلا شكوى، بلا انتظار للرواتب، فقط لتقديم الحياة للمريض. يصفهم بأنهم ليسوا موظفين، بل جنود حياة يمتلكون قدرات علمية ومهنية عالية رغم قلة الإمكانيات، ويمنحون المريض كل اهتمامهم وكأن حياتهم معلقة بيده. كانت هذه الروحانية في العمل الطبي مصدر إلهام له، فهي لا تتوقف عند الجراحة فقط، بل تمتد إلى كل تفاصيل الحياة في المستشفيات، وفي كل ممر من ممرات غزة.
الحرب والحرمان… اليد المعلقة
لكن الحرب الأخيرة صنعت قيدًا على معصمه. كان من المفترض أن يعود إلى غزة في ديسمبر 2023، في مهمة طبية لإنقاذ المزيد من الأرواح، فإذا بالأبواب تُغلق أمامه. بقي في القدس، بينما المرضى في غزة يواجهون موتًا مضاعفًا ،أورام بلا علاج، غسيل كلى متوقف، مستشفيات خرجت من الخدمة، وأطباء زملاء استشهدوا أو اعتُقلوا. يقول بمرارة: “أشعر نفسي مكبلا” كأن يداه المخلوقتان لإنقاذ الأرواح جرى تجميدهما خلف الأسلاك، وحينها يصبح قلبه معلقًا بغزة كما كانت يده معلقة عن المريض.
حتى الآن، يتواصل المرضى معه عبر الهاتف، يستشيرونه ويبحثون عن أي حل، لكنه عاجز عن تقديم العلاج المباشر. يرى الغزيين في كل اتصال أنهم يحتاجون إليه أكثر من أي وقت مضى، ويرى كيف أن الحصار والحرب دمّرا ما بقي من إمكانيات مستشفيات القطاع.
ذكريات الطفولة… وحنين مستمر
غزة بالنسبة للطبيب وائل ابو عرفة ليست مجرد مكان عمل، بل ذاكرة، روح ، يتذكر رحلاته مع والده إلى المدينة، البحر، الأسواق، المنازل التي تفتح أبوابها حتى وهي فارغة من الطعام. يصف الغزيين بأنهم مختلفون، أكثر حبًا للحياة وللعطاء، يقدرون العمل والتكافل الاجتماعي، ويرحبون بالزائر كأنه أحد أهل البيت. كل هذه التفاصيل جعلت غزة بالنسبة له قلب فلسطين، ومكانًا لا يمكن أن يغادره عقله أو قلبه.
الأمل… وعد بالعودة
وائل أبو عرفة لا يتحدث عن مهنة فقط، بل عن عهد. يقول: “إذا توقفت الحرب اليوم فسأعود إلى غزة غدًا” ليس مجرد وعد، بل وعد روحاني اليد التي تعرف غزة لن تنساها، والجرح الذي انفتح بينهما سيظل ينتظر لحظة اللقاء، لتعود غرفة العمليات إلى الحياة، ولتستعيد غزة جزءًا من قلبها المفقود، ولو للحظة واحدة.
في كل صورة للبحر المدمر، في كل بيت تفتّح أبوابه رغم الجوع، في كل طفل يتشبث بظل حياة، يرى ابو عرفة غزة التي عرفها منذ طفولته، التي حنّ إليها طوال حياته، والتي ستظل تنتظر عودة اليد التي علمت كيف تنقذ الأرواح.